نعصب أعيننا عن الحقيقة قسرًا ..ونفوّت اليوم الفرصة الأخيرة لوقف تغلغل البلاستيك في أجسادنا وفي الكوكب


الخميس 14 أغسطس 2025
نعصب أعيننا عن الحقيقة قسرًا ..ونفوّت اليوم الفرصة الأخيرة لوقف تغلغل البلاستيك في أجسادنا وفي الكوكب

بقلم: هلا مراد
خبيرة في سياسات البيئة والمناخ - الأردن 



منذ الخامس من آب، اجتمعت وفود 184 دولة في مقر الأمم المتحدة بجنيف في سباق مع الزمن لاعتماد معاهدة عالمية ملزمة لإنهاء التلوث البلاستيكي قبل الموعد النهائي في الرابع عشر من آب. وُصفت هذه المفاوضات بأنها إحدى أهم لحظات التعاون البيئي في القرن الحادي والعشرين، إذ تتوج مسارًا بدأ رسميًا في آذار 2022 بقرار تاريخي من جمعية الأمم المتحدة للبيئة استجابةً لأزمة بيئية وصحية متفاقمة
.

لكن مع بقاء أقل من أربع وعشرين ساعة على خط النهاية، فاجأ الرئيس القاعة العامة بمسودة نص وُصفت بأنها كارثية، بعد يوم كامل من الجلسات المغلقة، خرج المراقبون والنشطاء  بخيبة أمل عميقة، فتجمعوا خارج القاعة لإرسال رسالة واضحة للمفاوضين: "استخدموا قوتكم! ارفعوا أصواتكم!"  وفي الداخل،  العديد من الدول  عبرت بمنتهى الوضوح ، مؤكدة أن النص غير مقبول. المسودة التي كان يُفترض أن تكون نقطة انطلاق للمرحلة النهائية تحولت إلى خطوة هائلة إلى الوراء، فهي لا تغطي كامل دورة حياة البلاستيك كما نصّ تفويض جمعية الأمم المتحدة للبيئة، وتتجاهل الجمع بين التدابير الإلزامية والتطوعية، لتجعل كل شيء باستثناء التقارير قائمًا على إجراءات وطنية طوعية والدول حسب إمكاناتها  كما همّشت مسألة الإنتاج إلى مجرد ذكر ضعيف في الديباجة وأفرغت النص من أي قدرة على تقليص مستويات الإنتاج مستقبلًا ،. والأدهى أنها تجاهلت مطالب اكثر من 100  دولة بوضع آلية لاتخاذ القرارات في مؤتمر الأطراف، وهي آلية ضرورية حتى لمعاهدة ضعيفة لتتعزز بناء قوتها وادواتها مع الوقت

الدعم للمسودة جاء تقريبًا حصريًا من دول نفطية، فيما رفضتها أكثر من ثمانين دولة كأساس للتفاوض. وكشفت الجلسة أن الوصول إلى معاهدة يقبلها الجميع سيكون بالغ الصعوبة، وربما مستحيلًا ، هذه الخلافات العميقة ظهرت بوضوح في القفزة الكبيرة لعدد النصوص المختلف عليها من 371 إلى نحو 1500 مع بداية الأسبوع الثاني  من المفاوضات ، ما يعكس حجم الانقسام حول القضايا الجوهرية. الخلافات لا تقتصر على التفاصيل القانونية بل تتعلق بجوهر المعاهدة: هل ستكون أداة ملزمة تغيّر قواعد إنتاج واستهلاك البلاستيك، أم مجرد إعلان نوايا غامض يلتف على المصالح الاقتصادية الكبرى؟

من بين النقاط الأكثر إثارة للجدل التعريفات التي تسمح بصياغات فضفاضة تفتح باب التحايل والإعفاءات، كما حدث سابقًا في اتفاقية بازل. النصوص الحالية في تصميم المنتجات تكتفي بالتشجيع بدل الإلزام، بينما الخبرة الصناعية تثبت أن التحول الجذري لا يحدث إلا تحت ضغط القوانين الملزمة. أما الإنتاج المستدام فقد تحول إلى ساحة الصراع الكبرى بين دول ومنظمات تطالب بسقف عالمي ملزم للإنتاج ودول صناعية ونفطية ترفض أي قيود مفضلة التركيز على إعادة التدوير، في مشهد يذكّر بالحلول المناخية الوهمية. إدارة النفايات جاءت بدورها ضعيفة مكتفية بـ "تشجيع" مسؤولية المنتج الممتدة بدل فرضها ضمن أهداف وجداول زمنية واضحة، بينما الانتقال العادل افتقد للآليات العملية التي تحمي الفئات الضعيفة مثل جامعي النفايات والصيادين الصغار. التمويل بقي قضية مركزية، إذ تطالب الدول النامية بنصوص تلزم الدول المتقدمة بتمويل الجهود، ضمن مبدأ العدالة البيئية والمسؤولية التاريخية.

تداعيات هذه المفاوضات تتجاوز قاعات جنيف إلى المنطقة العربية، وخاصة حوض المتوسط الذي تجاوز تلوث الجزيئات البلاستيكية فيه 80%، مهددًا تنوعًا بيولوجيًا فريدًا، إضافة إلى تسرب 3.1 كغ من البلاستيك للفرد سنويًا إلى البحار، بمعدل يفوق بستة أضعاف الدول ذات الإدارة الفعالة للنفايات. التأثيرات تمتد إلى الصحة العامة والاقتصاد والسياحة الساحلية. هذه المعاهدة تمثل فرصة لتبني سياسات تدعم الاقتصاد الدائري، وفرز النفايات من المصدر، وتطوير حلول محلية، وتشكيل تحالفات دولية للضغط من أجل نصوص ملزمة تراعي العدالة البيئية والاقتصادية.

اليوم، الرابع عشر من آب، ليس مجرد موعد على تقويم الأمم المتحدة؛ إنه خط فاصل بين خيارين: شجاعة اتخاذ قرارات ملزمة بآليات تمويل واضحة، أو الاكتفاء بعبارات مشجعة تترك الأزمة تتفاقم. الفشل في جنيف لن يكون وثيقة ناقصة فقط، بل إعلانًا بفشل العالم في حماية نفسه من أزمة يعرف أبعادها بالكامل. نحن لا نتحدث عن خطر افتراضي قد يظهر بعد عقود، بل عن أزمة يومية في طعامنا ومياهنا وهوائنا. الجزيئات البلاستيكية الدقيقة موجودة بالفعل في دم الإنسان، في حليب الأم، في رئات الأطفال، وفي الأسماك والملح على موائدنا. الفشل يعني أن هذه السموم ستواصل التراكم في أجسادنا وأجساد الأجيال القادمة بلا رادع، في جنيف او في أي مكان بالعالم اليوم نحتاج ان نرفع اصواتنا ونستخدم كل قوتنا .