عمّان – 23 أيلول 2025
بقلم: هلا صبحي مراد
في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمات المناخ والغذاء على مستوى العالم، كان للأردن حضور بارز في منتدى نياليني الثالث للسيادة الغذائية في سريلانكا. جمع المنتدى مئات المشاركين من مختلف القارات، ليضع الأرض والمناخ وحقوق المزارعين في قلب النقاش العالمي. المشاركة الأردنية لم تكن مجرد حضور رمزي، بل مساهمة في صياغة رؤية حقوقية تؤكد أن السيادة على الغذاء والطاقة والموارد لم تعد ترفًا فكريًا، بل قضية بقاء وكرامة لشعوب تبحث عن مستقبل عادل ومستدام.
انعقد المنتدى في مدينة كاندي بمشاركة أكثر من سبعمائة ناشط وناشطة من مئة وواحد بلد. كان هذا اللقاء محطة لإعادة طرح الأسئلة الجوهرية حول العلاقة بين الأرض والزراعة والموارد الطبيعية، في ظل ما يفرضه تغير المناخ من تحديات على صغار المزارعين في مختلف أنحاء العالم. جاءت مشاركتي في إطار التحالف الدولي للموئل، من خلال مجموعات العمل الخاصة بالسيادة الغذائية والأرض والعدالة المناخية، إضافة إلى المساهمة في النقاشات حول السيادة الطاقية باعتبارها جزءًا من العدالة المناخية.
النقاشات أظهرت أن السيادة الغذائية ليست قضية إنتاج وأسواق فقط، بل إطار حقوقي يضع المزارعين في صلب السياسات، ويعيد الاعتبار لحق الشعوب في غذاء صحي ومستدام. هذا الحق يرتبط بحق آخر لا يقل أهمية، وهو الأرض والمياه والبذور، حيث لا يمكن تحقيق سيادة غذائية إذا كانت الأراضي الخصبة تُخصص لمشاريع تجارية على حساب صغار المزارعين. هذه الحقائق العالمية تعكس واقع الأردن، حيث يواجه القطاع الزراعي ضغوطًا متزايدة من الجفاف وتراجع الهطول المطري، في وقت تتصاعد فيه المنافسة على الموارد المائية والأراضي.
في المنتدى برز بقوة مفهوم السيادة الطاقية. لم يُطرح باعتباره مجرد بحث عن بدائل لاستخراج الوقود، بل كحق للمجتمعات في التحكم بمصادر طاقتها بما يخدم حاجاتها. الفكرة الجوهرية أن التحول الطاقي لا بد أن يحيد تدريجيًا عن الاعتماد على الوقود الأحفوري الملوث والمكلف، لصالح الطاقة الشمسية والرياح وغيرها من البدائل النظيفة منخفضة الكلفة. هذا التحول يمنح الناس حقًا أساسيًا: الحصول على طاقة متجددة ورخيصة تعزز قدرتهم على الصمود وتقلل تبعيتهم للأسواق العالمية التي تديرها الشركات الكبرى. ربط السيادة الطاقية بالعدالة المناخية منح النقاشات بعدًا عمليًا، وأكد أن العدالة لا تقتصر على الغذاء والأرض، بل تشمل حق المجتمعات في مستقبل طاقي مستدام.
المنتدى لم يقتصر على النقاشات داخل القاعات. من أبرز محطاته زيارة مؤسسة NAFSO في نيغومبو، وهي حركة سريلانكية تدافع عن حقوق الصيادين. أظهرت هذه التجربة كيف يتحول الدفاع عن سبل العيش اليومية إلى قضية حقوقية متكاملة تربط بين حماية الموارد الطبيعية والعدالة الاجتماعية. هذا الدرس يعيد التذكير بأن الدفاع عن حقوق المزارعين والصيادين وصغار المنتجين هو جزء من النضال العالمي من أجل السيادة الغذائية.
تجربة كاندي أبرزت أن ما يواجهه المزارعون في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ليس بعيدًا عن منطقتنا. الضغوط المناخية تتشابه: جفاف متكرر، مواسم مطرية مضطربة، وتصحر يلتهم الأراضي. أما الضغوط الاقتصادية، فهي تجعل صغار المزارعين الحلقة الأضعف، حيث تتحول الأرض من ضمانة للغذاء إلى مورد مهدد بالاستحواذ والاستثمار التجاري. في الأردن، يضاف إلى ذلك محدودية الموارد المائية وتراجع الأراضي الزراعية، ما يجعل المزارعين في مواجهة أزمة مركبة تتطلب حلولًا حقوقية وسياسية وليست تقنية فقط.
لقد كان واضحًا من المنتدى أن المعارك مترابطة. حين يناقش المزارع في الهند حقه في البذور، أو يدافع الصياد في سريلانكا عن بحره، أو يطالب المزارع في الأردن بمياه الري، فإن القضايا قد تبدو محلية، لكنها في جوهرها معركة واحدة ضد نظام اقتصادي يجعل الموارد سلعة والحقوق ثانوية.
بالنسبة للأردن، فإن حماية صغار المزارعين يجب أن تكون أولوية وطنية. المطلوب هو رؤية شاملة تدمج بين الحماية الاجتماعية، تعزيز التعاونيات الزراعية، حماية الأراضي من الاستحواذ، وتطوير سياسات مناخية عادلة تضع الفئات الأكثر هشاشة في صلب الاهتمام. المشاركة الأردنية في المنتدى كانت خطوة لربط هذه الرؤية الوطنية بمسار عالمي، لكن التحدي الأكبر هو تحويلها إلى مبادرات وسياسات محلية ملموسة.
رسالة منتدى نياليني كانت واضحة: قضايا الأرض والزراعة والمناخ مترابطة، والتغير المناخي ليس مجرد ظاهرة طبيعية بل انعكاس لخيارات اقتصادية غير عادلة. وما يعيشه المزارع في الأردن أو في أي مكان آخر هو وجه من أوجه أزمة واحدة. الاستجابة لهذه الأزمة تتطلب سياسات عملية ومبادرات تضامنية تجعل من العدالة الزراعية والمناخية حجر الزاوية لأي مشروع للتنمية. بهذا فقط يمكن أن يصبح الحق في الأرض والموارد والسيادة الغذائية والطاقية واقعًا معاشًا، لا شعارًا يرفع في المؤتمرات.