"كل شجرة من هذه الأشجار عمرها أكثر من 50 عامًا، كبرت وكبرنا معها، كنا ننتظر موسمها كما ننتظر أفراحنا"، بهذه الكلمات المليئة بالألم والحزن يُعبّر المزارع الفلسطيني سالم أبو عليّة عن فقدان أشجار الزيتون بينما يتفقد جذوع أشجاره المقطوعة. مشهد يمثل حجم الإجرام بحق الإنسان والطبيعة في فلسطين، حيث تتقلّص المساحات الخضراء لتتحوّل إلى أراضٍ قاحلة جرداء، وهو مشهد يتكرّر في أكثر من دولة ضمن منطقتنا العربية.
ففي اليمن وسوريا وفلسطين والسودان، وعلى الرغم من تفاوت مواقعها الجغرافية وظروفها السياسية، إلا أنّ مصيرها البيئي واحدٌ، خصوصًا لناحية التصحّر المتسارع الذي يهدّد الأراضي الزراعية ومصادر الحياة، ويحوّل معظم القيعان والأودية إلى أراضٍ جافة عامًا بعد عام.
وإذ تتعدّد العوامل بين تداعيات تغيّر المناخ وسوء إدارة الموارد الطبيعية، غير أنّ الحروب المستمرة تبقى العامل الأبرز بعد أن تسبّبت في إزالة الغابات وتدهور الأراضي، لتصبح المساحات الخضراء مجرّد ذكرى في خرائط هذه الدول.
وفي تتبّعٍ لبيانات الأقمار الصناعية والتقارير الأممية والشهادات الميدانية، يتبيّن كيف تتقاطع نيران الحروب مع أزمات المناخ، لتجعل من المساحات الخضراء في منطقتنا العربية "صحاري صامتة" تبحث عن ظلٍّ أو قطرة مياه.
زيتون فلسطين .. ذاكرة تقتلعها جرافات الاحتلال
ارتبطت أشجار الزيتون بتاريخ فلسطين وهويّتها، وتحوّلت إلى إحدى ضحايا الصراع الفلسطيني مع الكيان الصهيوني، حيث تُظهر بيانات وزارة الزراعة الفلسطينية أنّ الاحتلال الإسرائيلي اقتلع أكثر من 2.5 مليون شجرة زيتون منذ العام 2000، فيما تُصادَر الأراضي الزراعية لصالح المستوطنات الإسرائيلية والجدار العازل.
وعلى الرغم من محاولات المزارعين إعادة الزراعة، إلا أنّ القيود المفروضة على المياه والحركة تجعل الحفاظ على الغطاء النباتي مهمّة شبه مستحيلة.
ومؤخرًا في أغسطس/ آب الماضي، شهدت قرية المغير شمال شرق رام الله عملية جرف لأشجار الزيتون، هي الأكبر منذ عقود، بعد توغّل جرافات العدو الإسرائيلي في أراضي القرية، واقتلاع جذور أشجار الزيتون، مخلّفةً الغبار والفراغ.
وبحسب تقرير لقناة الجزيرة، جاءت العملية على مساحة تُقدّر بـ 0.27 كيلو متر مربع، أي ما يعادل آلاف الأشجار بذريعة "اعتبارات أمنية" لتأمين طريق يربط بين المستوطنات في المنطقة.
وما يراه الأهالي أكثر وجعًا من الخسارة المادية هو الاقتلاع المعنوي، إذ يقول أحمد، أحد المزارعين الشباب في القرية: "زرع جدّي أول شجرة هنا قبل 70 عامًا. كانوا يُخبروننا أنّ الزيتون لا يموت… لكنّني اليوم رأيتُ الموت في عينَيّ جدّي".
ويقول أحد المزارعين من رام الله: "كل زيتونة تُقتل، كأن جزءًا من الذاكرة يُقتلع معها".
قرية المغير بعد اقتلاع جرافات الاحتلال لأشجار الزيتون - مواقع التواصل الاجتماعي
ويقول أحد أعضاء المجلس المحلي للقرية: "هذه أرض خصبة ننمّيها منذ أجيال، واليوم نراها مقطوعة ومن دون شجر، اقتلعوا ما يزيد على ثلاثة آلاف شجرة زيتون، لكنّهم لن يقتلعوا حبّنا لهذه الأرض؛ فالأشجار التي سقطت لم تكن مجرّد مصدر رزق، بل ذاكرة حيّة تتوارثها الأجيال".
اقتصاديًا، تمثل خسارة ثلاثة آلاف شجرة ضربة قاسية لاقتصاد القرية التي يعتمد معظم سكانها على الزراعة كمصدر دخل أساسي، حيث تنتج كل شجرة زيتون ما بين 15 إلى 25 كيلوغرامًا من الزيت سنويًا، ما يعني أن القرية فقدت في هذه العملية وحدها ما يقارب 60 إلى 75 طنًا من الزيت سنويًا.
تُقدّر المساحة المزروعة بالمحاصيل في الضفة الغربية المحتلة، بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الـفلسطيني، نحو 90% من المساحة الإجمالية المزروعة في فلسطين، والتي بلغت 1.1 مليون دونم في العام 2020، وتُعتبر مدينة جنين هي الأعلى من حيث المساحة، إلا أنّ التدمير المستمر الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي للغابات والمحاصيل الزراعية ساهم في انحسار الغطاء النباتي.
بين عامَي 2001 و2024 فقدت فلسطين نحو 10 هكتارات من الغطاء الشجري، أي ما يعادل 3.6% من المساحة المغطاة بالأشجار في العام 2000 ، وتشير البيانات إلى أنّ التوسع العمراني والاستيطان تسبّبا في فقدان 10 و15% من غطاء الغابات في مدينة جنين، بين عامَي 1970 و2023 .
إلا أنّ الاعتداءات المتكررة للمستوطنين والإجراءات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية أدّت إلى تدمير وتخريب واقتلاع أكثر من60 ألف شجرة زيتون خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ( OCHA)، وتتكرّر هذه الاعتداءات في موسم حصاد الزيتون. وفي العام2023 وثّق المكتب الأممي ذاته تعرّض أكثر من10 آلاف شجرة زيتون إلى التدمير والتخريب.
وفي العام 2024، وثّق معهد الدراسات الفلسطيني اقتلاع نحو8500 شجرة زيتون من أجل شقّ طريق يخدم المستوطنات في الضفة، ويُقدّر خبراء زراعيّون أنّ فلسطين تخسر سنويًّا ما بين 15 و30 ألف شجرة زيتون، لكن خلف هذه الأرقام خسارة أعمق تتجاوز الاقتصاد إلى سياسة مُمنهجة يتبعها الاحتلال الإسرائيلي.
وعن العوامل والأسباب التي تقف خلف فقدان الغطاء النباتي، يرى الصحافي والخبير البيئي، خالد سليمان، أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه البلدان تعاني أساساً من آثار تغيّر المناخ وفقدان الغطاء النباتي وقلة المصادر المائية، باستثناء السودان التي لا تُعدّ غنية بالمياه، لكن وضعها أفضل من وضع بقية الدول.
ويسأل في حديثه لـ"الشبكة العربية للصحافة العلمية": "إذا كانت هناك مشاكل مسبقة تتعلق بالنُّظم البيئية بشكل عام، أي المساحات الخضراء والغطاء النباتي وتنوّع الأحياء والتنوّع البيولوجي والتربة وصحة الغابات وغيرها، فكيف سيكون الحال إذا أضفنا الحرب والصراعات إلى الأزمات والتحديات الموجودة أصلًا؟".
ويلفت إلى أنّ "الصراعات في هذه البلدان أدّت إلى تجميد كلّ القوانين المتعلقة بالبيئة. ففي كل دولة هناك قوانين تنظّم الصيد وقطع الأشجار والتحطيب، وتنظّم حتى صناعة الفحم، لكن في حال نشوب حرب، كما في سوريا منذ العام 2011، وهي التي دخلت في صراع داخلي وخارجي وإقليمي، لم يعد هناك من يهتم بالبيئة، حتى الجهات المعنية والمؤسسات الحكومية المعنية بالقضايا البيئية. وهكذا الحال في اليمن وفلسطين وحتى السودان، فهذه المناطق بما أنها تشهد حروبًا وصراعات مستمرة، فإن المؤسسات الحكومية والجهات المختصة بالقضايا البيئية لا تفكر أساساً بالبيئة، لذلك تكون الغابات الضحية الأولى وسط الفوضى القائمة".
ويوضح سليمان أنّه حتى في الدول المستقرة، وبسبب غياب تطبيق القوانين البيئية أو ضعفها، يحدث الشيء ذاته تقريبًا، ويعود السبب في ذلك إلى انتشار تجارة الخشب والتحطيب وصناعة الفحم. ففي بعض المناطق يعتمد الناس على الأشجار والخشب للطهي والتدفئة، نظراً لعدم توفر وسائل أخرى للوصول إلى مصادر وقود حديثة، فيلجؤون إلى هذا الأسلوب البدائي".
ويقول: "إنّ القوانين البيئية في البلدان العربية، لم يتمّ تحديثها حتى اليوم. إنّها قوانين قديمة عفا عليها الزمن، لا تستجيب لتحديات البيئة الراهنة، وهذه نقطة أخرى تُضاف إلى مسألة الحرب والصراعات. أمّا النقطة الأهم، فهي أنّ المنطقة تعاني أساسًا من مشكلات بيئية وصحية مزمنة، مثل مرض الربو وجائحة "كوفيد – 19" التي فاقمت من سوء الأحوال. ويمكن القول إن الوضع البيئي يُشبه حالة المُصاب بمرضٍ مزمنٍ؛ إذ تعاني البيئة في هذه البلدان من آثار تغيّر المناخ والتدهور والتحديات ، وتزيد الحروب من حدّة الوضع".
وبحسب دراسات منشورة عبر الموقع العالمي "ScienceDirect" ، تُسهم أشجار الزيتون في تخزين الكربون في التربة والهواء، ما يجعل اقتلاعها سببًا مباشرًا في زيادة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتسريع التصحّر. كما يؤدّي غيابها إلى تعرية التربة وفقدان خصوبتها، وهو ما يؤثّر على الإنتاج الغذائي المحلي، ويزيد من هشاشة الأمن الغذائي الفلسطيني.
وتوضح تقارير المركز الدولي للعدالة من أجل الفلسطينيين (ICJP) أنّ اقتلاع الأشجار لا يهدّد البيئة فقط، بل يضرب أيضًا مصدر الدخل الأساسي لآلاف الأسر التي تعتمد على الزيتون في معيشتها، مقدّرةً الخسائر الاقتصادية السنوية بالملايين.
من جهة أخرى، يؤكد متخصّصون في البيئة أنّ فقدان الغطاء النباتي في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكّل حلقة خطيرة في أزمة المناخ المحلية؛ فالأرض التي تُصادَر أو تُترك من دون عناية تتحوّل تدريجيًا إلى مساحات جرداء تفقد قدرتها على امتصاص الكربون وتخزين المياه الجوفية، ما يفاقم ظواهر التصحّر وارتفاع درجات الحرارة المحلية.
وتشير البيانات المتوفرة إلى أن الأراضي الفلسطينية شهدت فقدانًا ملحوظًا في الغطاء النباتي نتيجة عوامل متعدّدة، أبرزها الحروب، تغيّر المناخ، التوسع العمراني، والاستيطان، ما يضع الأمن الغذائي والزراعة المحلية تحت ضغطٍ متزايد.
وفي ظلّ تنامي فقدان الغطاء النباتي والتدهور البيئي في فلسطين، تبرز إلى الواجهة أحاديث عن ضرورة تبنّي الحكومة الفلسطينية بالتعاون مع منظمات دولية عدّة سياسات وإجراءات لمكافحة التصحّر وحماية الأراضي الزراعية.
الغطاء النباتي في اليمن... نزفٌ مستمر بفعل الحرب وتغيّر المناخ
وفي اليمن أدّى جفاف المناخ إلى جعل الأرض أكثر هشاشة، إذ ترافق هذا الجفاف مع نيران الحرب، ما تسبّب في تراجع المساحات الخضراء خلال الأعوام العشرة الماضية بنسبة تقارب 40%، بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فيما يواصل السكان الاعتماد على الأشجار مصدرًا أساسيًّا للطاقة، بسبب غياب الكهرباء والوقود ويبدو الوضع أسوأ في المناطق الريفية، التي تعتمد معظمها بشكل كلّي على قطع الأشجار للحصول على الحطب، الأمر الذي حوّل بعض الجبال إلى أراضٍ جرداء.
وفي السياق، يقول الخبير الزراعي اليمني، الدكتور فضل ناصر مسعود: "إنّ اليمن يشهد في السنوات الأخيرة تدهورًا بيئيًّا خطيرًا نتيجة الحرب وقطع الأشجار والتحطيب المُفرط والجفاف والزحف العمراني غير المنظّم، ما أدّى إلى تراجع المساحات الخضراء وتفاقم التصحر".
ويُعدّ القطاع الزراعي في اليمن موردًا اقتصاديًّا مهمًّا، إذ يعتمد 76% من السكان في معيشتهم على الزراعة والرعي، ويمثل ما نسبته 58% من إجمالي القوى العاملة، لكن الأداء الاقتصادي للقطاع الزراعي تراجع كثيرًا خلال الحرب الدائرة في اليمن.
ويتميّز اليمن بغطاء نباتي متنوّع، إذ تُقدّر مساحة الغابات بمليونَي هكتار، أي ما يعادل 4% من مساحة البلاد، وتُقدّر المراعي الطبيعية بـ 22,6 مليون هكتار، أي ما يعادل 43% من المساحة، وتشكل أنظمة التكامل الزراعي الحراجي مساحة 500 ألف هكتار، أي 1% من أراضي اليمن. فيما تُقدّر مساحة الأراضي الصالحة للزراعة بنحو 3,62 مليون هكتار، أي 7% من المساحة الإجمالية للبلاد.
ومع ما يمثله الغطاء النباتي من أهمية بيئية واقتصادية لليمن، فإنّه يعاني من سوء الإدارة، والاستخدامات غير المنظّمة والمكثفة من قبل السكان المحليين لتلبية احتياجاتهم المتنامية، ما أدّى إلى انحساره كمًّا ونوعًا بشكل كبير.
وبحسب التقرير الوطني الرابع للتصحر في اليمن، الصادر في العام 2023 ، فإنّ نحو 97% من الأراضي مهدّدة بالتصحّر بدرجات متفاوتة، ثلث هذه الأراضي معرّض لخطر تصحّرٍ عالٍ، وذلك في سهول تهامة وميفعة وبيحان بمحافظة شبوة.
ويبيّن التقرير الذي نُفّذ بين عامَي 2015 و2019أنّ التصحّر وتدهور الأراضي في اليمن ارتفع من 8,7% في العام 2015 إلى 17,54% في العام 2019 ، علاوة على ارتفاع مؤشر الجفاف وتأثيره على السكان والتنوّع البيولوجي. فيما تُظهر بيانات رسمية حديثة أنّ مساحة الأراضي التي تعرّضت للتصحّر في اليمن بلغت 405 آلاف كيلومتر مربع، أي ما يعادل 71,6% من إجمالي المساحة، وأنّ 15,9% معرّضة للخطر.
(صور تُظهر تصحر مزارع الفاكهة واسعة النطاق في مجرى وادي ريمة)
وأظهرت بيانات الأقمار الصناعية لتحليل مؤشر الغطاء النباتي (NDVI) تراجعًا مقلقًا في الغطاء الأخضر لعدد من المحافظات اليمنية خلال العقود الأربعة الماضية. فقد تصدّرت محافظات حضرموت، وشبوة، والمهرة، ولحج، وتعز قائمة المناطق الأكثر تدهورًا، مسجّلةً معدلات انخفاض سنوية متواصلة في كثافة الغطاء النباتي، نتيجة الجفاف، والتصحر، وتراجع النشاط الزراعي، إلى جانب تأثيرات النزاع المستمر على الموارد والأراضي.
ويكشف هذا التحليل الممتد من العام 1984 إلى العام الجاري 2025 أنّ اليمن يشهد تحوّلات بيئية خطيرة تهدّد التوازن الطبيعي والأمن الغذائي، ما يستدعي استراتيجيات وطنية عاجلة لإعادة إحياء الأراضي الزراعية وتعزيز إدارة الموارد المائية لمواجهة آثار تغيّر المناخ.
وفي حين تتعدّد العوامل المؤثرة على الغطاء النباتي في اليمن، فإنّ عمليات التحطيب المُفرط تأتي في صدارة تلك العوامل، حيث ارتفع استهلاك الحطب خلال السنوات الأخيرة في ظل الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الحرب، إذ لجأت كثير من الأسر إلى قطع الأشجار واستخدامها وقودًا بعد فقدان مصادر الدخل وارتفاع أسعار الغاز والمشتقات النفطية. وتحوّلت بقايا أشجار النخيل والسدر والسمر إلى جذوع يابسة تُحمَل على عربات بدائية لتُباع في الأسواق، في مشهدٍ يعكس حالة التحطيب العشوائي التي تهدّد ما تبقى من الغطاء النباتي.
(شاحنة تحمل عددًا من أشجار السدر المعمّرة في طريقها إلى الأفران بصنعاء)
صور أقمار صناعية تُظهر إزالة الغابات في محمية برع بمحافظة الحديدة - مرصد الصراعات والبيئة 2017-2019
وأمام هذه المساحات الشاسعة التي يخسرها اليمن سنويًّا من غطائه النباتي، يؤكد الدكتور مسعود، الخبير الزراعي اليمن بأنّ "ما يحدث هو إنذار بيئي خطير يستدعي تدخلًا عاجلًا، لافتًا إلى أنّ إعادة التوازن البيئي يحتاج إلى خطط وطنية مستدامة وجهود مجتمعية متكاملة". ويدعو إلى "ضرورة تنفيذ برامج وطنية لإعادة التشجير والحفاظ على الغطاء النباتي، إلى جانب سنّ قوانين صارمة للحدّ من الزحف العمراني على الأراضي الزراعية، وتشجيع استخدام الطاقة البديلة بدلًا من الحطب".
بينما يكشف تقرير جديد صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع معهد "فريدريكس. باردي" للعقود الدولية الآجلة، تحت عنوان "تدهور الأراضي والتنمية البشرية في اليمن"، أنّ اليمن يواجه "كارثة صامتة" تتمثل في تدهور الأراضي والتصحّر. ويحذّر التقرير من أنّ استمرار هذا التدهور دون تدخل سيزيد من أعداد الفقراء والجوعى بالملايين خلال العقود المقبلة، ما لم يتمّ اتّخاذ إجراءات جذرية ومتكاملة، إذ يواجه أكثر من 18 مليون شخص في اليمن انعدام أمنٍ غذائي حادّ، ويقبعون حاليًّا تحت خط الفقر والجوع.
وتدعو التقارير الأممية إلى تحرك فوري من الأطراف اليمنية والمجتمع الدولي لإنهاء الصراع في اليمن، إذ أنّ استعادة التنمية مرتبطة بشكل وثيق بالسلام، مؤكدةً أنّ الحلّ لا يكمن فقط في جهود استعادة الأراضي، بل يجب أن يقترن بإنهاء الصراع وتحسين الحوكمة والتنمية البشرية الشاملة. وتشير التقارير ذاتها إلى أنّ أيّ تأخير يعني تكاليف باهظة تُهدّد بتحويل أجزاءٍ واسعة من البلاد إلى مناطق غير قابلة للحياة.
سوريا... غاباتٌ تآكلت جراء الحرب والحرائق والتحطيب
من غابات اللاذقية غرب سوريا إلى ريف حماة وسط البلاد، تحوّلت مساحات شاسعة من الأراضي السورية إلى رمادٍ. فقد التهمت الحرائق التي شهدتها سوريا خلال عامَي 2020 و2023 آلاف الهكتارات. وفي صيف العام 2023، دمّرت الحرائق نحو 12,805 هكتارًا من الغابات، إضافة إلى 2,194 هكتارًا من الأراضي الزراعية في ريف اللاذقية وطرطوس وحمص. وتعجز السلطات السورية عن إعادة تأهيل الغابات بسبب تداعيات الحرب وتراجع الموارد. وقد أسهمت الحرب في تسريع تدهور البيئة وفقدان الغطاء النباتي وتدمير الغابات وتراجع مستوى الأمن الغذائي. وبحسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو"، فإنّ أكثر من 20% من الغابات السورية التي تُعدّ إحدى الثروات البيئية المهمّة، تضرّرت بشكل دائم خلال العقد الماضي. وتشير دراسة أجرتها منظمة "PAX" الهولندية غير الحكومية استنادًا إلى تحليلات الأقمار الصناعية وبحوثٍ مفتوحة المصدر، إلى أنّ سوريا فقدت نحو 19,3% من مساحة الغابات بين عامَي 2010 و2019 أي ما يعادل 63,700 هكتارًا في المنطقة الساحلية السورية التي تمثّل 76% من المساحة الكليّة للغابات، إلا أنّ تلك المساحة تراجعت بنسبة 24,3% خلال الفترة ذاتها، أي نحو 31,116 هكتارًا، نتيجة القطع الجائر والحرائق التي تفاقمت بفعل النزاع المستمر.
وبحسب التقرير ذاته، فَقَد الحزام الأخضر حول العاصمة دمشق نحو 18% من غطائه النباتي بين عامَي 2010 و2018،بينما شهدت المناطق الخضراء داخل المدينة ذاتها تراجعًا في الغطاء النباتي بنسبة تتراوح بين 2,5% و4% خلال الفترة ذاتها.
تبلغ المساحة الإجمالية للغابات وفقًا لتقرير وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي السورية لعامَي 2023 و2024 نحو 527,810 هكتارات، أي ما يعادل نحو 2,85% من إجمالي مساحة سوريا. ويبيّن التقرير أنّ نحو 232,840 هكتارًا هو عبارة عن غابات طبيعية، بينما تمثل الغابات المزروعة 294,970 هكتارًا، وفقًا للخطة الزراعية لتعزيز الغطاء الحرجي ومواجهة التصحّر وتغيّر المناخ.
ليست الحرب وحدها مَن تقف خلف تدمير الغطاء النباتي وتسارع التصحّر في سوريا، إذ أنّ هناك عوامل أخرى خلف انحسار الغطاء النباتي يتمثّل بالقطع غير القانوني للأشجار، والحرائق الطبيعية والمُفتعلة، وتغيّر المناخ والجفاف، والتهجير والنزوح الداخلي. كلّها عوامل ساهمت في تدهور الأراضي الزراعية ونقص المياه.
صورة جوية تُظهر أفراد الدفاع المدني يكافحون حريقًا في بلدة جسر الشغور، غرب محافظة إدلب السورية – فرانس برس
ويقول الصحافي والخبير البيئي، خالد سليمان لـ"الشبكة العربية للصحافة العلمية": "إنّ فقدان الغابات في هذه الدول يعني مزيدًا من التدهور في نُظمها البيئيّة؛ نظرًا للدور الكبير الذي تلعبه الغابات في الحفاظ على النظام البيئي والأمن الغذائي. إنّها تساهم بشكل كبير في دورة المياه الطبيعية، فالأشجار والغابات عبارة عن مياه افتراضية غير مرئية، تمثّل مخزنًا كبيرًا للكربون، وتساهم في تبريد الجو وخفض آثار تغيّر المناخ".
ويشير سليمان إلى أنّ الغابات غنيّة بموائل مثالية لنظام الأحياء الدقيقة التي تُسهم بشكلٍ كبير في تخصيب التربة والحفاظ عليها، وجعلها تتجدّد سنويًّا عبر هذه الكائنات المجهرية التي تلعب دورًا جوهريًّا في النُّظم البيئية". ويؤكد أنّ "الأهمية الأكبر للغابات تتمثّل في كونها مصدرًا مهمًّا للتنوّع البيولوجي الذي يحتاجه كلّ بلد للحفاظ على نظامه البيئي وضمان أمنه الغذائي ومستقبل أجياله".
سينعكس فقدان الغطاء النباتي في سوريا على الأمن الغذائي، ويؤدّي بالتالي إلى زيادة التصحّر والانبعاثات الناجمة عن تغيّر المناخ ، ما سيحُول دون عودة ملايين المهجّرين والنازحين السوريين الذين يعتمدون بمعظمهم على الزراعة.
السودان.. تراجع حادّ بموارده بعد أن كان سلّة غذائية واعدة
بينما تأثرت العديد من الدول العربية، مثل اليمن وسوريا وفلسطين بتراجع الغطاء النباتي، تبرز قصة السودان بوصفها حالة فريدة ومأساوية، حيث يجتمع ثراء الطبيعة مع تسارع وتيرة الدمار. فالسودان، الذي كان يُعتبر سلة غذاء محتملة للعالم العربي، يشهد الآن تراجعًا حادًّا في مساحاته الخضراء، ما يهدّد أمنه الغذائي والبيئي.
وتشير تقارير منظمة "فاو" إلى أنّ المساحات الصالحة للزراعة في السودان تبلغ 200 مليون فدّان، أي ما يعادل 81 مليون هكتار، يُستغلّ منها حاليًّا 30 مليون فدّان فقط، أي 12 مليون هكتار، وهو ما يساوي 15% فقط من المساحة الكليّة للبلاد.
قبل الحرب الأهلية الأخيرة، كان قرابة 27% من إجمالي مساحة السودان الشاسعة مغطّى بالمساحات الخضراء ، من غابات ومراعٍ وأراضٍ زراعية وعشبية. هذه الثروة الطبيعية لم تكن مجرّد مشهدٍ جميل، بل كانت عماد الحياة لملايين السودانيّين. لكن خلال العقد الماضي وحده، فَقَد السودان ما بين 11 إلى 13% من هذا الغطاء النباتي الحيوي، وهي نسبة كارثية تعكس حجم التدهور المتسارع
لم يكن هناك سبب واحد وراء هذه الخسارة، بل كانت محصّلة لعوامل متشابكة، إذ أنّ الصراع المسلّح، والاقتصاد المنكوب، وقطع الأشجار بغرض الوقود والسياسات والقوانين البيئية الضعيفة، وتغيّر المناخ، كلّها عوامل بارزة وراء تدمير الغطاء النباتي.
وقد كشفت بعض الدراسات أنّ مساحة الغابات في السودان انخفضت إلى نحو 26% في الوقت الحالي، بعدما كانت تتراوح بين 45 و 50% من إجمالي مساحة البلاد في الخمسينيات، مع استمرار التراجع، نتيجة الوضع الذي تشهده البلاد.
وتشير دراسة صادرة عن مجلة العلوم الإنسانية والطبيعية حول "تدهور الأراضي الزراعية في غرب السودان"، إلى تحوّل مساحات شاسعة من الأراضي العشبية والغابات إلى أرضٍ جرداء أو شبه جرداء بين عامَي 2017و2021.
وفي تقريرها الحديث عن السودان، أظهرت منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، أنّ السودان يفقد سنويًّا ما بين 0,5% إلى 1% من غطائه الحرجي، وهذه النسبة هي من أعلى المعدلات في العالم.
وإلى جانب التوسّع العمراني والتجارة غير المنظّمة للفحم والتي تؤدّي إلى تجريف مساحاتٍ شاسعة من الغابات، خصوصًا غابات" الهشاب" المنتجة للصمغ العربي، يشكل التحطيب الجائر خطرًا يهدّد البيئة والغطاء النباتي للسودان، إذ يعتمد أكثر من 70% من السكان على الحطب والفحم النباتي كمصدرٍ أساسي للطاقة والطهي والتدفئة، ما يؤدّي إلى زيادة التصحّر في السودان.
وفي ظل التدمير المتواصل للغابات والغطاء النباتي في هذه الدول، وتوسّع ظاهرة التصحر، تحثّ منظمة "فاو" في تقريرها السنوي بشأن حالة الغابات في العالم لعام 2024، على تهيئة بيئة سياسية وتنظيمية تحفّز الابتكار في قطاع الغابات، واستخدام التكنولوجيا للوصول إلى بيانات الاستشعار والانذار المبكر.
وفي سياق متّصل، يرى الخبير البيئي خالد سليمان، أنّه من أجل الحفاظ على الغطاء النباتي لابدّ من إنهاء الصراعات في اليمن وسوريا والسودان وفلسطين، وبالتالي استقرار هذه الدول، ومن ثم سنّ القوانين وتفعيلها لحماية الغابات والحفاظ على الغطاء النباتي ، مشيرًا إلى أهمية "تأسيس محميات طبيعية، ورفع وعي المجتمعات من خلال إشراكها وتشجيعها على إطلاق مبادرات تُسهم في خلق بيئة صحية وسليمة".
وبين رماد الحروب ولهيب المناخ، تتلاشى الغابات العربية بصمتٍ مُوجع. فالأرض التي كانت مهد الحضارات تغدو اليوم شاهدةً على أعنف موجات الجفاف والنزوح البيئي، وقد لا يجد الجيل القادم سوى أرضٍ ترابيّة تبحث عن ظلٍّ اضمحلّ عبر الزمن.
قائمة المصادر
منظمة الأغذية والزراعة (FAO)
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)
مركز الدراسات البيئية بجامعة دمشق – تحليل حرائق الغابات في الساحل السوري (2022).
وزارة الزراعة السودانية
منظمة PAX الهولندية
صور أقمار صناعية – منصة Google Earth وNASA Earth Data
هذه المادة ضمن مخرجات البرنامج التدريبي "الصحافة العلمية وأدوات الذكاء الاصطناعي" الذي نظمته الشبكة العربية للصحافة العلمية خلال "سبتمبر- نوفمبر 2025"